قوميتنا الشركسية , انسانية حقيقية لاتعرف الحدود
قوميتنا الشركسية – إنسانية حقيقية لا تعرف الحدود
الكاتب: نوح غش
الترجمة: بسام حاج حسن
من هو الشعب الذي وجد على سطح الأرض في البداية ؟ لا يستطيع أحد أن يجيب على هذا السؤال. وفقا لما ترسخ عند الناس أو لما يعرفونه فإن آدم عليه السلام هو الإنسان الأول الذي تواجد على الأرض، ويعتبرون أن حواء قد خلقت من ضلعه. أصبح آدم وحواء زوجين، ونتج عنهما الجنس البشري وانتشر على وجه الأرض على شكل أمم وقبائل. وكيفما كان الأمر، فإن الزمن الذي مر على الشعب الشركسي وهو شعب متفرد على وجه الأرض، طويل جدا. بالإستفادة من الانجازات العلمية، يشهد العلماء بأن الشركس كانوا يعيشون في منطقة القفقاس منذ حوالي ثلاثين ألف عام. إذا أحذنا هذا الزمن القصير (إذا ما قورن بتاريخ وجود الانسان على الأرض) بعين الاعتبار، دون الاهتمام بالحوادث الأخرى، نجد أن الشعب الشركسي قد قطع طريقا طويلا عبر التاريخ، وتعرض لتغيرات كثيرة وعانى الكثير من الصعاب. خلال هذه الطريق الطويلة، أصبح للشعب الشركسي، إضافة للغته الخاصة التي تختلف عن اللغات الأخرى وإضافة للسحنة التي تميز بها، أصبح له عادات وتقاليد خاصة عمل عليها وجمعها ونظمها كما لو كانت من حبات الدخن الأبيض.
توضحت خصوصية معالم العادات الشركسية مع نهايات القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر. لم تكن العادات الشركسية السائدة في المجتمع مكتوبة، وحتى الآن فإن ما هو مكتوب منها قليل. ولكن كانت العادات الشركسية التي لدى شعبنا معروفة لمعظم أبناء الشعب وكانوا يطبقونها. كان يضاف الكثير للعادات الشركسية، وهذه كانت تصبح عادات غير مكتوبة على شكل قوانين تحكم الشعب الشركسي، وهي لا تزال كذلك حتى الآن، فهي عادات رئيسية موجودة عند الشعب الشركسي. إذا تطلب الأمر إضافة قوانين جديدة أو حين يقررون تعديل بعضها، كان يعقد اجتماع كل عشرين أو ثلاثين سنة يضم بعض الرجال المختارين ليتناقشوا في الأمر، وكان يحضر هذه الإجتماعات معهم بعض الأشخاص المكلفين بنشر مقررات الاجتماع بين الناس. بعد ذلك كان الناس يتناقلونها ويتحدثون عنها ويثبتونها في كل بيت وفي كل مضافة. بسبب ذلك أصبح من الصعب تمييز العادات الشركسية عن الأمثال الشركسية.
نوح غش: كاتب مؤرخ وأديب من جمهورية الأديغي حائز على درجة الدكتوراه في علوم الفلولوجيا، من مواليد مايكوب عام 1935.رئيس قسم اللغات في معهد كراشة تيمبوت. المقالة باللغة الأديغية من رسالة الدكتواره.
لم يكن لدى الشراكسة شخص مسؤول عن تطبيق العادات يعاقب أو يغرَم من لا يطبقها، بل كانت العادات تتغلغل بين الناس وتسري في عروقهم، ونتيجة لذلك كان الشخص الذي لا يطبق العادات الشركسية يصبح منبوذا بين الناس، بل كان الناس يديرون ظهورهم لعائلته، وللحي الذي ولد فيه وللقرية التي ترعرع فيها ولا يعيرونهم أي اهتمام. كان الشعب بكامله يتحمل مسؤولية حماية العادات التي اعتبرها مناسبة له وقبلها. عند مخالفة العادات الشركسية، كان على الشخص مواجهة المجتمع الشركسي بكامله، وعندها لن يستطيع أبوك أو أمك أو اخوك أو اختك أن يفيدوك بأي شيء.
تتناول العادات الشركسية بمجملها التربية الإنسانية والسلوك الاجتماعي الإنساني الذي يجب أن يتمتع به الشعب الشركسي. لا يتوجب على الشركسي أن يحقق كل العادات الشركسية في وقت واحد، ولكن الشخص الذي يحقق إحدى هذه العادات أو بعضها، أو يطبقها في الوقت والمكان المناسبين كان يعتبر أنه يتمتع بشيء من القومية الشركسية. لذلك فإن القومية الشركسية والعادات الشركسية ليستا شيئا واحد. القومية الشركسية هي إحدى نتائج العادات الشركسية، ولكي تظهر القومية الشركسية لديك في المكان المناسب يجب عليك أولا أن تعرف العادات الشركسية وأن تجري مع الدماء في عروقك. لا زلنا حتى وقتنا الحاضر نسمع الشراكسة وهم يرددون تعابير قصيرة محددة تبين معاني هذه الواجبات: “معلوماته عن العادات الشركسية قليلة”، “لا يطبق العادات الشركسية”، “لا يهتم بالعادات الشركسية”، “يحسن معايشة العادات الشركسية”، “يفسر العادات الشركسية على هواه”، “لا يمكن أن يخل بالعادات الشركسية مهما حصل”، “ليس هناك ما هو أجمل من العادات الشركسية”، “فيه شيء من القومية الشركسية”، “قوميته شركسية”، “يتصرف بقومية شركسية”، “فيه قدر كبير من القومية الشركسية، تهده، تقتله، وتسقطه أرضا”، “يعاني من قوميته الشركسية”، “لا يعرف ما يسمى بالقومية الشركسية”، “ليس هناك ما هو مثل القومية الشركسية”، “القومية الشركسية تعلمك كيف تتعامل مع الناس”.
كانت بعض التغييرات تحدث في العادات الشركسية كما مر معنا سابقا، ولأن هذه التغييرات كانت تحدث مع الزمن، كان الناس يتقبلونها وتصبح في عروقهم، ولهذا كان معظم الشراكسة يطبق هذه العادات بحذافيرها. إن هذه العادات الجميلة التي انتقاها الشعب الشركسي خلال ألوف السنين وطبقها كانت تعمل على رفع سوية هذا الشعب، وتجعل الشعوب الأخرى ينظرون إليهم بإعجاب، ويعتبرونه نموذجا يقتدى به. لقد حدثت هذه الأمور التي نتحدث عنها حين كان الشراكسة يعيشون على أرضهم وكانت علاقاتهم وتواصلهم مع الشعوب الأخرى قليلة. ولكن وكنتيجة للحرب الظالمة التي شنت عليهم بأوامر القيصر الروسي، وحين أصبح الشراكسة متناثرين في بقاع الأرض، بدأت تدخل للعادات الشركسية تغييرات ليست نتاجا للشعب الشركسي، وتوقف الناس عن تعلم تراثهم، وحصد الموت كبار السن الذين كانوا يعرفون هذا التراث، وبدأ بعض الأشخاص يحشرون بعضا من عادات الشعوب الأخرى للعادات الشركسية بحيث أصبح من المتعذر معرفة كيف كانت العادات الشركسية الحقيقية، ولم يبق للشعب لا القدرة ولا إمكانية التحقيق في العادات الشركسية ومحاسبة الذين يسيؤن للعادات، لأنهم سلبوا هذه القدرة والإمكانية، وأصبح من المحظور الحديث عن العادات الشركسية أو المحافظة عليها. بدلا عن ذلك، بدأت تظهر عادات ليس ناتجة عن الأمة وليس لها جذور في تاريخها وظهر أشخاص يتسلقون للأعلى كالأعشاب الضارة. لقد جاءتنا أوقات كان يعتبر فيها من لا يتعاطى الكحول ناقص الرجولة، وتوجب علينا أن ندلل المرأة التي تلد سفاحا (ما يسمى الأم العزباء بالروسية) وأن نعامل أمثالهم بإحترام، ونكون حذرين بالتعامل معهم. لقد نتج عن ذلك الزمن البائس ما نراه من مظاهر السكر والسباب والعنف والعراك التي نجدها عن الرجال، ونجد بين النساء غانيات مطليات بالمساحيق، يمشين بوقاحة لدرجة أنهن يصطدمن بك ولا تطرف لهن عين. كانت القوانين المطبقة في البلاد، والقادة الذين يقومون على تطبيقها يعتبرون العادات والقومية الشركسية غير ضرورية للحياة بل انها اخلاق قديمة رجعية يجب التخلص منها. لقد عانت القومية الشركسية من ضرر كبير في تلك الأوقات التي كان ينظر فيها إلى القلة ممن يحاولون المحافظة على العادات الشركسية وتطبيقها على أنهم مساكين وقد نسيهم الزمن وكانوا يصبحون محل سخرية الآخرين.
للعادات الشركسية وبالمعاني التي تحملها مكانة عالية، ولعل هذا هو السبب الذي جعل الشركس يحافظون عليها إلى جانب الديانة المسيحية أو الإسلامية عند اعتناق هذه الأديان. ولا تتخلف العادات الشركسية في نواحي الرحمة والأدب والنظافة وفي حب الإنسان لأخية الإنسان أو في أي من القضايا الأخرى عن الأديان المختلفة أن لم تتفوق عليها (مع أنها ليست نتاجا للدين). لكن هذا لا يعني أن الشركس لم يكونوا مؤمنين وأنهم كانوا يعيشون بدون عقيدة. كان الشركس يتعايشون بالعادات الشركسية ويؤمنون بالإله ويحكم سلوكهم خشيته، وكان الإله موجودا دائما معهم. إذا أخذنا الأمة الشركسية بشكل عام ومع أنهم يقولون أنهم كانوا في أقاليم متعددة وغير متحدين، فإن القومية والعادات الشركسية كانت تربط كل الشعب الشركسي ببعضه وكان الشركس يلتزمون بها. اللغة الشركسية كانت أكثر ما يفيد في تطبيق العادات الشركسية. كان كثير من الشركس يفضل الموت على أن يقال له:”ألست شركسيا، “ألا تحمل القومية الشركسية، ” ألم تلدك أمرأة شركسية” والدليل على ذلك هو هذا المثل الشركسي: ” أن تتحطم خير لك من أن يلحقك العار”. يجب عدم إهمال العادات التي جمعها الشعب بكامله وعمل بها وعليها خلال قرون عديدة، بل يجب نشر العادات التي لا تتعارض مع الحياة والتي يرغب بها الناس، وتطويرها، والعادات التي لا يأخذ بها مجمل الشعب لن يظل لها صفة العادات. هذا فرز سيحدث سواء طالت المدة أو قصرت. كانت العادات الشركسية تطبق من قبل الأمراء والعبيد على حد سواء. لم يكن بإمكان شخص تغيير بعض العادات لمصالحه الخاصة مستخدما النفاق والخديعة وذلك لأن الشعب بكامله كان يراقب ذلك ومن غير الممكن كتمان الأمر عن الناس، وسيكون من الأفضل لك ان تموت على أن تصبح رخصيا في أعين هؤلاء. صحيح، أنه ظهر في وقت ما، ماسمي “بعادات النبلاء”، ولكن ذلك لم يكن مهما مقابل العادات الشركسية، كانوا يحاولون الترفع قليلا ليس إلا. “عادات النبلاء” سميت كذلك لأنهم حاولوا إدخال بعض التصرفات التي لم يكن الشعب يقبلها إليها. على سبيل المثال كان يدخل في “عادات النبلاء” ما يتعلق بأعمال الغزو وسرقة الخيول والمواشي (التي كانوا يأخذونها عنوة). لقد أزاح الشعب الشركسي مثل هذه التصرفات جانبا ولم يأخذ بها، لهذا لا نجد في العادات الشركسية التي نجمعها الآن مثل هذه الأمور. لقد أطلق العشب على ما يسمى “عادات النبلاء”، “العادات الشركسية” ولم يدعها بـ “عادات النبلاء”.
إن ما يجعل الناس يحترمون ويقدرون من يتصرف وفقا للعادات الشركسية ويترافق سلوكه بالقومية الشركسية، هو صعوبة هذه الأمور. إن السلوك وفقا للقومية الشركسية في كل الأوقات، لا يتطلب فقط معرفة العادات الشركسية بشكل جيد، ولكنه بحاجة لكثير من الشجاعة والإنسانية والعقل. إن القومية أو الكينونة الشركسية هي أن تجمع هذه الأمور فيك وتطبقها دون تكاسل وبتعقل، وهذا هو ما يجعل سلوكك محل تقدير كبير.
إن الذي يتصرف وفقا للعادات الشركسية والسلوك القويم المرافق لها بإمكانه التعايش مع أي شعب يريد أن يعيش معه، وهذا يعني – بالنسبة إلي- أن أي إنسان جيد لا يمكنه إلا إن يقبل بالعادات الشركسية. تؤدي بعض العادات الشركسية التي تتوافق مع الحياة المعاصرة إلى التقارب بين الشعوب المختلفة ولإمكانية تعايشها وخلق جو المحبة بينها، ولعل الفضل في انتشار روح التعايش والسلام التي تعم الشعوب التي تعيش في جمهوريتنا الأديغية حاليا يعود إلى هذه الروح القومية، ولأن العادات الشركسية تلعب مثل هذا الدور المفيد في التربية والتعايش يتوجب علينا أن نفعل ما بوسعنا لإعادة جمع هذه العادات في قالبها الصحيح. لهذا نجد أن صحفنا ومدارسنا ومحطة الإذاعة والتلفزيون عادت لتتحدث جميعا عن العادات الشركسية والقومية الشركسية في السنوات الأخيرة. مع أنه يظهر أحيانا أن هناك أصواتا تتعالى محاولة لفت الأنظار إليها لتكون محل تقدير الجمهور ومن بينهم من يفهم ومن لا يفهم في العادات الشركسية. ولكن هؤلاء لا يعرفون أن هذا ليس من العادات الشركسية ولا تقبلها عاداتنا ولن يستطيعوا استيعاب ذلك، إن مثل هؤلاء يلحقون الضرر بالعمل ولا يمكن أن يفيدوه. نجد في العادات الشركسية نفسها فصولا تنهى عن ذلك، هذا ما يقوله المثل: “من لا يعرف العادات لا يرسل لكي يطبق العادات”. لا يمكن التعامل مع العادات الشركسية بدون خبرة طويلة. وحتى العادات نفسها لا تقبل ذلك والشاهد هو: “إذا فعلت معروفا لاتعلنه”، “تحدث قليلا وافعل الكثير”، “لا تصعر خدك”، وغيرها.
من وجهة نظري، فإن عاداتنا الجميلة، ترفع مكانة كل شخص منا، وتغني امتنا بأسرها، وتخلق بين الشعوب المختلفة أجواء الدفء والتعايش. ولأن معظم العادات الشركسية هكذا، فإن الثقافة الشركسية قد وجدت لها مكانا بين ثقافات شعوب العالم.
إني أعتقد أن العادات الشركسية والسلوك الشركسي القويم الغني بمفاهيم الديمقراطية، والمتناسب مع العلم والتطور والتقدم يجب اعتباره تراثا ذهبيا للأمة الشركسية ويجب إعادة اختيارها، والمحافظة عليها وتطويرها. لكن وبنفس الوقت يجب تنقيتها من العادات المزيفة التي شابتها على مر العصور والتي تمنع الشعب من التقدم وتحض على السوء والفساد، وكمثال عليها تناول الكحول، السباب، التكبر، الحسد، النفاق، الكذب، النميمة، الخيانة وغيرها من الصفات السيئة. توجد في العادات الشركسية اقوال تحض على استبعادها، على سبيل المثال: “لا تكن مشاغبا”، “احفظ ماء وجه الأمة”، “لا تكذب”، “لا تكن نماما”، “تجنب الخيانة”، “تزود بالعلم”، “لاتنظر بعين الحسد”، “لا تزني”، “لا تكن حسودا”، “لا تسرق”، “لا تجافي الحقيقة بالقول”، “المخمور يخرج من جلده”، “السكير نصف إنسان” وغيرها.
إن الشعوب الإنسانية في الوقت الحاضر ومن بينها الشعب الشركسي أصبحت لا تهتم إلا قليلا بقضايا التعايش الإنساني وطرق تحسينها إن لم نقل أنها لا تهتم بها إطلاقا. الناس بوقتنا الحالي أكثر اهتماما وانشغالا بتحقيق الحرية الفردية لأنفسهم فقط، ولم يعودا يهتمون بما فيه الكفاية بالعادات التي تنظم التعايش والعلاقات الانسانية أو بتطويرها. إن ما يعرفه الناس الآن هي العادات التي كانت قد وجدت لديهم كشعب والبعض يعرف القوانين التي تنظم العلاقات بين الدول أو لا يعرفونها.
كما أن لكل شعب لغته الخاصة، كذلك يملك عادات اجتماعية خاصة به أيضا. وهذا يبين علاقة الترابط الوثيقة بين لغة الشعب وعاداته. عند التفكير بالأمر نجد أن الله، قد وهب لكل شعب لغته، بنفس الطريقة يمكن أن يكون الشعب قد اكتسب عاداته وسلوكه الاجتماعي. وإذا كان الأمر كذلك، يجب الاهتمام كثيرا باللغة وبعادات الأمة وحمايتها ، كشف الجيد منها وإزالة ما دخل إليها مما لا ينتمي لها. ما لا يجب أن ننساه أنه لا يفكر أحد الآن في لغة الأمة والعادات المرتبطة بها وتطويرهما. يجب توعية الأجيال اللاحقة أن اللغة والعادات مترابطة وأن الأمة لا تستطيع كل يوم، أو كل سنة أن تخلقها من جديد، وتربيتهم على حماية الموجود منها. تغطي العادات الشركسية مجالات حياتية كثيرة: طرق التعامل بين الناس، الأخلاق، الأدب، التعامل في الأسرة، التصرف في حالات الأفراح والأحزان، كيفية التعامل مع الأصدقاء، الأهل، الجيران، الأصحاب، كبار السن، التعامل مع النساء وطرق التعامل في أماكن أخرى وكثير غيرها. إن الغاية من تطبيق العادات بما تتضمنه من مفاهيم متعددة، كان نشر الفضيلة في المجتمعات الإنسانية، مثل زيادة الحشمة، تحسين سلوك الفرد خشية من نظرة المجتمع في حال السلوك السيء، وأن يكون ذلك بدافع من الحياء وصحوة الضمير بحيث يعتبر السوك السيء غير لائق أو مقبول من الفرد بشكل ذاتي. كما اتضح سابقا، لم يكن تطبيق العادات الشركسية أو عدم تطبيقها يتم بالإكره أو بالتخويف، القتل أو الغرامة – بل كان التطبيق يحدث بدوافع الأخلاق وبسبب طرق التعامل والعلاقات الإجتماعية التي كان تتمتع بها الأمة الشركسية. ليس هذا فحسب، بل كان كل فرد يحرص على تطبيق العادات الشركسية بشكل كاف وعناية حقيقية، والسبب في ذلك، أن عدم تطبيق احدى هذه العادات في ظرف ما، سيجعل المرء محل احاديث الناس، وهذا سيؤدي إلى التعرض لللوم من المجتمع بكامله والنظر باحتقار اليه. بالنسبة للناس، كانت الكلمة التي تحمل معنى محددا يخص الأمة، توازي قوة قوانين الدولة السارية الآن. هذا يبين لنا القيمة التي كان الشركس يعتبرونها للكلمة في مجال التربية (“اجعل لكلمتك قيمة، احترمها”). يكون الشركسي مستعدا لإلقاء نفسه بالنار ولقتل نفسه في سبيل أن لا يتم تداول اسمه بالسوء في مجتمعه. إذا أردنا وصف الواقع فعلا، كان الشركسي المتمسك بالعادات الشركسية حقا يفضل الموت على أن يلحقه العار في مجتمعه. يبين كراشة تيمبوت في قصته المعنونة “ابن المضيف” هذا الأمر بشكل جيد. حين قرر ابن المضيف باتمه مصارعة الجثة الكبيرة في الليل، شعر لوهلة بخوف مفاجيء، ولكن في نفس اللحظة بدأت تدور في رأسه القصص التي كان قد سمعها تتحدث عن الرجولة والإنسانية تدور في رأسه وتوالت صور الذين كانو يقصونها أمام عينيه وهم يذكرون أن عادات العمر التي لا يجوز تجاوزها تعتبر غير قابلة لأن تخدش: “الرجولة والإنسانية ليست شيئا سهلا”، “من أجل الحفاظ على ماء الوجه تقدم الروح”، “ليس بإنسان من لا يكترث لعتاب الناس”، “حتى في أسوأ الظروف وعند ضياع الأمل قاوم ولو بأظافرك”.
وتذكر ما كان أبوه قد أخبره به: “الأفضل لك أن تموت على أن تحيا وقد جلبت العار لنفسك”.
وبدأت تتردد في أذنيه أغنية كان قد سمعها من أحد المغنين في قريته:
لا تدعوهم يقولون
أن ولدي المرأة الصالحة قد أصيبا بالهلع!
إن تنهدتم مع الأنين،
سوف تنسون معنى الاحتمال.
استعاد الشاب عندئذ انفاسه، واصبح كمن عاد إلى رشده بعد أن كان الهلع قد أوقف تفكيره: “يا للعجب، ما الذي خطر ببالي! أليس من الأفضل أن يموت المرء على أن يحيا وقد جلب العار لنفسه”. كان معظم الشراكسة مثل الشاب باتمه – حين يواجهون الخوف أو الأخطار، كانت العادات الشركسية تقيهم الخطأ، ويفكرون بما سيقوله الناس.
من الصعب معرفة الوقت الذي وجدت فيه العادات الشركسية، ولكن وكما أسلفنا سابقا إن لم يكن الله قد أودعها في الأمة فمن المستحيل مقاربة الموضوع. إن مما يجعلني أقول ذلك هو ما أريد أن أتحدث به الآن. يبين بوريسلاف بروس بشكل مفصل في روايته التاريخية المسماة “فرعون” الحاكم في أقدم حضارة في دولة مصر، وكيف كانت الحياة هناك والأعمال التي كانوا يمارسونها، والأمم الأخرى التي كانت على علاقة بهم وكيفية التعامل معهم. ولكن هذا ليس هو السبب الذي جعلني أذكر هذه الرواية الآن. تذكر الرواية شخصا جديرا بالاهتمام يسمى “بخوت” يتوقف في إحدى مضافات فرعون وهو في زيارة عمل إلى مصر. كان بخوت هذا من رعايا الأمة الحاتيه وقد جاء من مدينة “حرًانا”. إن ما نعرفه نحن هو أن الحاتيين هم أسلاف الشراكسة الحاليين. إن الزمن الذي يبينه بوليسلاف بروس لروايته هو القرون الثالث للخامس قبل الميلاد. لقد كان لدى الشعب الحاتي (الشركسي) منذ تلك القرون الموغلة في القدم بعض العادات الشركسية التي أتحدث عنها الآن. وهي تتعلق بأمور مثل الصبر، الامتناع عن شرب الخمر، عدم الإكثار من الطعام، كيفية معاملة الضيف، النظافة، عدم التلفت بفضول في المناسبات الاجتماعية، عدم إشاعة الأحداث التي يجدها المرء غريبة عند الآخرين.
إن هذه الأمور التي اذكرها على أنها من خصائص الشعب الحاتي ليست من بنات أفكار بوليسلاف بروس، ولكنها مواد فنية استقاها من الأرشيف. وأرغب أن أقدم قليلا من المديح الذي تذكره الرواية عن بخوت هذا باللغة الروسية دون ترجمتها للغة الشركسية:
لم يكن التحدث إلى الضيوف والذين كان بينهم اشخاص من جنسيات ومناطق مختلفة تتعارض مع كون المضيف يتابع الجميع .. أحد الزائرين الوافدين حديثا، كان يجلس على وسادة في الجهة الأمامية للصالة وقد صالب ساقية، وأخذ غفوة وأمامه حفنة من التمر وكوبا من الماء النظيف. كان زائر في حوالي الأربعين من عمره، له شعر كثيف واسود كالأبنوس ولحية، عينان مدهشتان ووقورتان وملامح نبيلة، لايبدو ان الغضب والخوف يمكن أن يشوهها. كان يرتدي عباءة داكنة ويبدو كراهب. ترك لدي وديعة من الذهب والجواهر ولكنه لم يكن يأكل اللحم أو يشرب الخمر.
“زائر واحد فقط في الجهة الأمامية للصالة لم يترك حقائبه حتى أنه لم يكلف نفسه عناء مشاهدة المنظر، وعندما تقدم الحمال باتجاه قطعة نقد معدنية كان قد ألقاها على الأرض مع قطعتين نحاسيتينوأشار له بيده أن لا يقترب منه”.
بينما كنا ننظر إلى بسيلوف – أضاف السيد المضيف وهو يمسد لحيته الشهباء: تسلق اللصوص إلى الطابق الثاني وسرقوا متاعك – ثلاثة أكياس وصندوق وعلى الأغلب لها قيمة كبيرة.
ينبغي لك أن تخبرني عن خسائري في المحكمة.
لماذا المحكمة؟ – همس للمضيف – إنهم من لصوص متجرنا … ذهبنا لرئيس العمال، سوف نقدر الأشياء وندفع له عشرون بالمائة من الثمن! وهنا أيضا يمكنني مساعدتك.
قال الزائر – في بلدي لا أحد يتفاوض مع اللصوص، وأنا لن أفعل ذلك. أنا أقيم عندكم وكانت ممتلكاتي في عهدتكم، وأنت مسؤول عنها.
قال وقد خفض صوته – أن رجل من بلد بعيد – أنتم الحاتيين ونحن الفينيقيين أخوة وأنا أنصحك بضمير مرتاح أن لا تعبث مع القضاء المصري، إنه الباب الوحيد الذي يمكن الدخول إليها ولكن لا يمكن لأحد مغادرته.
همس السيد: أبرياء! … من منا يمكن أن يعتبر بريئا في هذا البلد العبيد؟- أنظر، انظر! هناك شرطي يأكل أوزة .. لقد جاء للسؤال عنك…
بعد أن قال ذلك نظر الفينيقي جانبيا إلى الزائر الجديد الذي كان جالسا بنفس الوجة الذي كان جامدا.
أضاف السيد: إنه يسألني من هو هذا الذي يرتدي السواد؟…”إن هذا الـ بخوت من حران، قد يكون جاسوسا أشوريا” أستمر السيد قائلا: لقد سقط قلبي حين سمعت ذلك.- وعلى كل حال تستطيع أن ترى بأنه غاضب، وهو يرى أن أسوأ شكوكه عن الجاسوسية ليس سلاما غاضبا حاتيا”.
حسب ما تبينه هذه الأسطر، فإن من يستطيع ان يتصرف بهذا الطريقة يجب أن يكون مضطلعا على العادات الشركسية، هو شخص يتمتع بسلوك قومي شركسي.
لا ينبغي أن يطبق المرء العادات الشركسية رياءً حين يكون بين الشراكسة، ولا يطبقها حين يكون في مكان آخر لا يعرفونه فيه. إن كنت شركسيا، تحلى بقوميتك دائما وطبقها في كل مكان. ولكن يحدث أحيانا أن ينسى هذا. على سبيل المثال، وبدون أن نذهب بعيدا، يوجد بين الشباب الشركس الذين يأتون إلى المدينة من القرى، شبان يسكرون، يقاتلون، يحدثون الهرج والمرج في الشوارع، يفتعلون المشاكل، ويتعالى صوتهم بالسباب. ويوجد أيضا بين الفتيات الشركسيات من يتصرفن بشكل غير لائق أو سيئ حين لا يتواجد من يعرفهن من الشركس. وهؤلاء لا يدركون أنهم بعملهم هذا لا يسيؤن لأنفسهم فقط ولكن لكامل الأمة. إذا كنت شركسيا، يجب أن تكون شركسيا حقيقيا بغض النظر عن المجتمع الذي تتواجد فيه. وهذا الذي أظهر أن الرجل الحاتي بخوت على أنه حاتي (شركسي) حقيقي. حين تتخيل هذه الصورة في الرواية، تعرف أن صاحبها حاتي (شركسي) حتى قبل أن يذكر الشعب الذي ينتمي إليه. لا أعتقد أن هناك شعب لا تستطيع أن تتعايش معه إذا ماطبقت العادات الشركسية بشكل جيد. أنا شخصيا قد تواجدت أو عشت أو عملت أو درست مع اناس من شعوب متعددة (روس، نغوي، اذاريين، أرمن، جورجيين، أودمورتيين أو يهود) ولا أتذكر أني تخليت عن سلوك العادات الشركسية، وبنفس الطريقة لا أتذكر أني قد واجهت صعوبة في معايشتهم أو في اكتساب احترامهم وتقديرهم. لذلك فالعادات الشركسية والقومية الشركسية ليست شيئا عابرا، ولكنها عادات من الذهب المحلى أرغب في تقديمها اليكم:
القومية الشركسية تراث أجدادنا
نعايشها وهي دائما في بيوتنا
هي أغلى من كل مقتنايتنا
تجري في عروقنا كماء الذهب المحلى
قوميتنا، يا قوميتنا
أنت دليلنا في الطريق للمستقبل
قوميتنا، يا قوميتنا
يا إنسانية حقيقية ليس لها حدود.
إذا مر بك فارس لا تعبس بوجهه
افتح له قلبك وادعوه لضيافتك
قدم له على مائدتك بوجه بشوش
طعامك ذو الرائحة الزكية.
عندما يحين وقت النوم المحبب
جهز للضيف فراشا وثير
في غرفة كبيرة مريحة طيبة الهواء
لينام الضيف بهناء وأمان.
لا تكن كالبقرة الكسولة إن حل ضيف
تجلس مطأطيء الرأس
استقبله، ببشاشة
وأجلسه في احسن مكان.
لا تتجنب الذي يعاني المصاعب
ساعده بقدر المستطاع
لا تعلن لقد “ساعدته”
احسب حسابا لقومتيك الشركسية
لا تجعل من لا يحترم النساء
ويسيء اليهن صديقا لك
وحين تواجه احمقا لا تكن مثله
اعطه قبعتك وانصرف عنه.
لا تكسر خاطر أبويك
وحافظ على شيخوختهما بكرامة
إذا كنت لا تحترم كبيرك
فلا تقل أن فيك قومية شركسية.
لقد جمعت عددا لا بأس به من الأمثال الشركسية. وهذه ربما لاتعادل نصف الأمثال الشركسية الموجودة. ولكني سأستمر في البحث وجمعها. إن ما جمعته منها وما قد أضيفه إليها لا تبين طرق السلوك والتعامل الشركسي كاملا. إن هذه تشكل رباطا للعادات الشركسية المتماسكة. هناك قلة ممن لا يميزون بين الأمثال الشركسية والعادات الشركسية، ولكن العادات هي سلوك والأمثال قصص تربوية ولا يجب الخلط بينهما، وإن كانت بعض القليل من الأمثال الشركسية قد اختلطت بالعادات الشركسية.
تقوم هيكلية العادات الشركسية غالبا على شكل توجيهات واوامر، على سبيل المثال: ” احترم الكبير”، “إذا دخلس المجلس إنسان فقم له”، “لا تجيع حتى من قتل أبوك”. إلا أن بعضها يتناول أيضا الحث والتلميح، كما في الأمثلة التالية: “يبيعون الروح ويشترون ماء الوجه”، “العمل الذي تفعله في وقته يفرحك فيما بعد”، “صاحب النخوة تكون له ذرية صالحة”.
:هذا المقال هو جزء من الرسالة ويمكن أن يجده المرءعلى الرابط التالي:
http://www.arigi.adygnet.ru/caucasus/book1.pdf